المظاهر خداعة

  • الأحد , 05 سمتبمر 2021

  • فريق أو

  • منشورات

  • انشره على

 

تخيّل أنك فحل من فحول الشعر وسيّد من سادات قومك، وأحد خطبائهم وكرمائهم وفرسانهم الشجعان، وقومك يحتكمون إليك لرجاحة عقلك وفطنتك ودهائك.

وتخيل أن أسرتك أسرة شعر، فأبوك شاعر وأختك شاعرة وابنك شاعر وحفيدك شاعر وابن حفيدك وابن ابن حفيدك شاعر، ومع هذا كله يزدريك الناس ويستصغروك، فيُضرب فيك المثل!

أحد أشهر الأمثلة التي شاعت في ثقافات عديدة ومختلفة هي: المظاهر خدّاعة، أو كما يُعبّر عنها في اللغة الإنجليزية: (Appearances are deceptive).

تعود أصول هذا المثل إلى إيطاليا وتحديدًا في القرن السابع عشر (1666م)، فقد ذكره جيوفاني توريانو في قاموسه الشهير الذي يُعرّف فيه ثقافة إيطاليا ويعرضها على السائحين والزوار الراغبين في اكتشافها والتعرف على ثقافتها، وجاء في معنى المثل أنه لا يمكن الحكم على الآخرين من مظاهرهم وأشكالهم وهيئاتهم.

ونُعبر عن هذا المثل في الثقافة العربية بصيغ عديدة؛ فنقول في الفصحى مثلاً: (أنْ تَسمع بالمُعيْدي لا أنْ تراه) ويُضرب لمن خبره خيرٌ من مرآه– أي من داخله خيرٌ من ظاهره.

ولهذا المثل في الثقافة العربية قصة جميلة، فيروي عكرمة الضبي أنْ رجلاً من بني تميم يقال له ضمرة بن ضمرة كان يُغير على مسالح[1] النعمان بن المنذر، حتى إذا عيل صبر النعمان كتب إليه أنْ ادخل في طاعتي ولك مئة من الإبل، فقبلها.

فلمّا أتاه نظر إليه النعمان فازدراه لدمامة خلقته وقبحه وقال له: "أنْ تسمع بالمعيدي لا أن تراه"، فرد عليه ضمرة: "مهلاً! مهلاً أيها الملك! إنّ الرجال لا يكالون بالصيعان، وإنما المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، إنْ قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان".

والمعيديّ هو شاعر جاهلي وسيد من سادات قومه وأحد خطبائهم وكرمائهم وفرسانهم وشجعانهم، وكان بنو تميم يحتكمون إليه لرجاحة عقله وفطنته وذكائه ودهائه، وكانت أسرته أسرة شعر إلا أنه كان دميمًا أبرصًا قبيحًا.

ونعبر أيضًا في العامية عن هذا بأمثال عدة، فحين ننخدع بحسن مظهر الرجل وشكله ولباقته ويخفى علينا ما بداخله نقول: "من برا الله الله ومن جوا يعلم الله" أو نقول أحيانًا: "ياما تحت السواهي دواهي"، وفيهما تحذيرٌ من الانخداع بمظاهر الناس؛ فكثيرًا ما تسمع عن شخصٍ ما لرجاحة عقله وفطنته وذكائه، وما يتحلى به من جميل الصفات ومن سمات الكمال، حتى إذا جلست معه وقربت منه وجدته خلاف ذلك، وخاب ظنك فيما قدرت له من الإجلال والإكبار.

ومن جميل ما ورد في هذا الصدد أنّ أحد العلماء دخل في يوم من الأيام على هارون الرشيد فاستقبحه وقال له: "ما أقبح هذا الوجه!"، فرد العالم: "يا أمير المؤمنين إنّ نظارة الوجه ليست مما يُتوسل به عند الملوك. هذا يوسفُ أحسنُ الناس وجهًا قال (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) ولم يقل (إني حسن الوجه)". فأُعجب به الخليفة ورفعه وأكبره وقرّب مجلسه.

قد لا تبدي المظاهر صورة الإنسان الحقّة التي نحكم بها على نواياه وأخلاقه، فهي صورة غير تامة لا يُمكن إلباسها إطار الخير أو الشر، وأغلب الظن أنّ الأعمال كلها متشابهة، والنيّة هي التي تميز عمل عن غيره، والإخلاص يضع لهذا العمل القَبول عند الناس؛ فالمظاهر قد تكون خدّاعة فعلاّ!

 

[1]  المَسالِح جمع مَسلَحة وهي الحامية العسكرية، وهم قوم وُكلوا بمرصد ومعهم السلاح ليحفظوا الثغور من العدو، والمسلحة لفظة مأخوذة من السلاح.