هل تجعلني قراءة الكتب مثقفًا أم أحمق؟

  • الخميس , 16 سمتبمر 2021

  • فريق أو

  • منشورات

  • انشره على

يقول أوسكار وايلد جملة شهيرة يتضمن معناها أن القارئ يستطيع أن يعرف إن كان الكتاب كتابًا جيدًا أم رديئَا في نصف ساعة، أما إذا كان قارئَا نبيهًا فإنه يستطيع معرفته في عشر دقائق فقط.

ولا شك أن النباهة والقراءة تربطهم علاقة وطيدة ومتجذرة ومتأصلة، فإن انفصلت النباهة عن القراءة أصبحت القراءة هشّة وسطحية. لكن السؤال المهم هو كيف أكون نبيهًا في قراءتي وأستطيع أن أصف هذا الكتاب بالسخافة أو ربما بالجيد؟

يقول أحد الطلبة: كثيرًا ماكنتُ استعرض في المدرسة بتظاهري بالقراءة أمام المعلمين حتى يثنوا عليّ ويطلبوا من الطلاب الاقتداء بي وبما اقرأه وأطلع عليه، حتى أتاني بعض الطلبة يسألوني عن نوعية الكتب التي اقرأها، ولم يعلموا أن فعلي ذاك لم يكن سوى بهرجةً وفخرًا، فكنتُ أجيبهم: بأن عليهم أن يقرأوا الكتاب المناسب. وحتى هذه اللحظة لا أعرف ما هو الكتاب المناسب!!

وإن الناظر في مدلول القراءة ليرى أنها قد تبدلّت وتغيرت بشكل كبير على مدار التاريخ واتخذت أدوارًا مختلفة. ابتداء من قراءة الكتب الدينية، حتى جاءت الثورات العلمية فتوسعت المجالات وتنوعت. ثم ظهرت فكرة القراءة المتعددة أو قراءة الكتب المتنوعة فكرة مرغوبة ومستحدثة حيث يملك القارئ أنواعًا متعددة من حقول مختلفة للقراءة، عكس ما كان في السابق حيث يمتثل القارئ لنوع واحد من الكتب وغالبًا ما تكون الكتب الدينية، وفي كل مرة يكرر قراءتها يخرج بحكم ومواعظ متجددة واستباطات عديدة، ولذلك أعادوها تكرارًا ومرارًا فكتبوا عليها، وشرحوها، وأصلّوها. وكل هذا من أجل تمحيص الكتاب الواحد واستخراج ما يمكن استخراجه من فوائد وقيم وأخلاق ومبادئ قد تفيد الناس في أيامهم وتعينهم على أنفسهم ومواجهة حياتهم. أما قراءة الكتب المتنوعة فإنه مسار مستحدث جديد، ولذلك كانت أبشع صور القراءة في القرن السابع عشر هي كثرة قراءة الكتب وتعددها. وظهر مصطلح (التهام الكتب) ولم يكن يدّل إلا على تفاهة القارئ وسخافته. لم تكن استعارة جيدة حين نصف القارئ بأنه يلتهم الكتب حين يقرأ في كل علم، وكل باب، وكل حقل من حقول القراءة. بل وصلت لكونها عملًا غير أخلاقيًا بما يؤول إليه الطعام من حاجة الإنسان إلى الخلاء وتنوع في المأكل والمشرب. أي بمعنى أن الإنسان يحتاج إلى الخلاء بعد الطعام، بينما لا يجوز استعارة ولا مجازًا أن يحتاج القارئ للخلاء بعد القراءة.

لكن هذا المدلول تغيّر كثيرًا مع ثورة الإعلام إلى أمر آخر تمامًا عمّا كان عليه في الماضي. فأصبحت على النقيض في معناها ومدلولها، أي أن القارئ الذي يلتهم الكتب يصبح نموذجًا يُحتذى به مهما كان نوع القراءة وشكلها، على العكس من الذي لا يلتهم الكتب فإنه قارئ فقير لا يمّت للقراءة بصلة.

يقول فرانسيس: من بين الكتب كتبٌ للتذوق وأخرى للمضغ والبلع.

 

فلو تأملنا فإن مفهوم التذوق والمضغ والبلع في القرن السابع عشر لرأينا نتيجة غير مقبولة عند القارئ عند ربطها بمفهومهم في ذلك الزمن، بمعنى أن الالتهام يعني عسر في الهضم ونتيجته في القراءة ستكون ضحلة ومؤثرة صحيًا على سبيل المجاز. كما ظهر عند جونسون في إحدى مسرحياته حين جعل البطل يتقيأ عباراته الجديدة والرنانة لأن قراءته كانت فضّة ومتسرعة. وفي ذات القرن كانت القراءة وسيطة المعرفة وأساسها بمنأى عن أي استعارة قد تصفها، ولذلك تمّكن الأشخاص الذين تأصلوا في قراءة الكتب وتحليلها واستخرجوا معانيها وتفاصيلها مكانة عالية ومرموقة خاصة في المجتمعات المتعلمة.

وبعد ذلك الزمن، ظهرت صورة جديدة للقراءة وهي (صورة الشهية والذوق). حين ارتبطت الشهية بالجسد والذوق بالعقل، ومن ثم وُصفت القراءة بين الذوق والاشتهاء، وحتى اليوم مازالت هذه الصفات تُطلق على القراءة مع اختلاف مدلولاتها، خصوصًا في قراءة الروايات التي كثيرًا ما تُوصف بالاشتهاء والالتهام لكنها بمعناها الإيجابي حيث إن قراءتها تُعد بمثابة الغذاء الذي يملأ الإنسان عافية وصحة.

وحين نتأمل كيف تغيّر السياق ذاته حين كانت فكرة الالتهام في القرن السابع عشر فكرة بخيسة وساذجةـ بينما اليوم تغيّرت إلى كونها فكرة ثقافية وحضارية عالية.

وفي عصر الرومانسية اتضح الاختلاف بين الالتهام، والذوق وبين الشهية والجسد. فالشعر الذي يكتبه الرجال كان ينّم عن الذوق في ذلك العصر، فالشعر خاص بالرجال دون النساء، لأن النساء لم تكتب الشعر ولم تجرؤ عليه كتابة ولا قراءة، ولذلك اتجهوا إلى قراءة الروايات والتهامها بما جعل هذه الرؤية لهن تشويهًا لا تمجيدًا. فالسياق المجتمعي الذي كان سائدًا في ذلك العصر مخالفًا للسياق الاجتماعي الحالي في مفهوم الالتهام.

إن فكرة الالتهام اليوم واستعراض القراءة تحمًل في طياتها خطورة قد لا يتنبه لها الناس، حين يرى القارئ ما يستعرضه غيره من قراءات واطلاعات تُشعره بالضعف والقِلّة والقنوط والخيبة مما يجعلهم يحمّلونها على غير ما قُصد من هذا الاستعراض والالتهام.

وإن أجدى تعريف قد تحمله القراءة اليوم هو بناء المعنى سواءً من كتاب واحد أو كتب متعددة. فالقارئ الحق هو من يستطيع أن يبني المعنى فوق المعنى بالتفاعل والمشاركة لهذه اللغة المكتوبة وهذا الكتاب. وهذا يعني أن يكون قادرًا على فهم السياقات واستيعاب المقروء، وفي هذا تفاوت بين الناس في تعاطيهم لما يقرؤونه، فقد تقرأ مع آخر نفس الكتاب وتفهمانه بطرق مختلفة.

إن عملية القراءة والكتاب لا تختلف كثيرًا عن التحدث مع عملية الانصات، فكأن الكتاب يتحدث إليك في حين تكون أنت مستمعًا منصتًا. حتى قيل إن الذي يستطيع أن ينصت إلى كلام الناس ويحلله ويفهم مدلولاته وتفاصيله، فإن قدرته في تفكيك النص المقروء أعلى من غيره. فمثلاً لو أن شخصًا أنصت إلى طفل يتحدث بصوت عالٍ وفهم حديثه، ومدلولاته، ومتى توقف، ومتى تعجب، فإن ذلك يمكّنه من قدرته على فهم علامات الترقيم في النص المكتوب، ودلالات الألفاظ ومعانيها. فاللغة المكتوبة لها صوت وحس حين تُقرأ وتُمثل وتُلحن وربما تكون أعلى وأكثر أثرًا.

إن ثقافة القراءة والاطلاع تُقاس بفهم الكتاب واستيعابه لا بتعدد الكتب وكثرتها، وبقدرة هذا القارئ على تحليل النص المقروء، وبقدرته على إنتاج معنى فوق المعنى لا بمدى تعدد قراءاته، فقد يقرأ الإنسان كتابًا واحدًا أنفع له من مائة كتاب يقرؤها بلا نفع.